بين ريشة المهندس ومصير المدن
لو أن لكل مدينة روحًا، لكان مهندسو التخطيط الإقليمي والعمراني هم كهنتها؛ يقررون بمخططاتهم وقراراتهم إما أن تتنفس المدينة بالحياة والنمو، أو تختنق بالفوضى والانهيار. هنا، حيث تلتقي الأمانة المهنية بالسياسة والاقتصاد، يصبح كل خط زاوية في المخطط العام بمثابة حكمٍ على مستقبل ملايين البشر.
في هذا المقال، سنغوص في أدبيات مهنة التخطيط العمراني، ونكشف كيف أن "أمانة المهندس" قد تكون الفارق بين تعمير الدول أو تدميرها، وكيف أن التوازن بين الاقتصاد والسياسة فنٌ لا يُتقنه إلا من يمتلك حنكة معرفة "حدود المرونة" في القرارات الاستراتيجية.
1. الأمانة المهنية: البوصلة الخفية لتعمير المدن
ليس التخطيط العمراني مجرد رسم خطوط على الورق، بل هو "أخلاقيات مكانية" تحدد:
- من سيمتلك الحق في العيش بكرامة؟
- من سيكون ضحية للازدحام والتلوث؟
- هل ستتحول المدينة إلى نموذج للاستدامة أم إلى كابوس من العشوائية؟
تاريخيًا، شهدت دول كثيرة كوارث عمرانية بسبب غياب الضمير المهني:
- البرازيل: عندما طغت السياسة على التخطيط، نشأت "مدن الصفيح" حول ريو دي جانيرو، وأصبحت بؤرًا للجريمة.
- لبنان: الفساد في تراخيص البناء حوّل بيروت إلى كتلة إسمنتية خانقة بلا بنية تحتية كافية. بالمقابل،
- نجحت سنغافورة لأن مهندسيها رفضوا المساومة على المبادئ، فحولوها إلى نموذج عالمي.
"المدينة ليست حجارةً وشوارع، بل ضميرُ مَن يخطط لها." — غير معروف
2. السياسة والاقتصاد: السير على حبل مشدود
لا يعمل المهندس في فراغ، بل في ساحة معركة بين:
- ضغوط المستثمرين الذين يريدون تحقيق أقصى ربح بأقل تكلفة.
- توجهات السياسيين الباحثين عن إنجازات سريعة تخدم شعبويتهم.
- احتياجات السكان الذين يدفعون ثمن القرارات الجائرة.
كيف ينجح التوازن؟
- في برشلونة: وُفِّق بين الاقتصاد والسياسة بتبني نموذج "الكتل الحضرية" الذي يحفظ هوية المدينة مع استيعاب النمو.
- في مدن اخرى فى الدول النامية : أدى غياب هذا التوازن إلى طفوف عشوائية تفتقر لأبسط الخدمات.
السر يكمن في "المرونة الذكية"، أي القدرة على:
✔ التكيف مع المتغيرات دون كسر المبادئ الأساسية.
✔ رفض القرارات الارتجالية التي تخدم مصالح ضيقة.
✔ الاستماع إلى صوت المجتمع، لا فقط صوت النخب.
3. السكان: الضحية أم الشريك؟
أكبر خطأ في التخطيط هو التعامل مع السكان كأرقام، لا كشركاء. عندما يُستبعد الناس من القرارات:
- ينشأ العمران "عليهم" لا "لهم"، كما حدث في عمارات كثير الاحياء السكنية التي تحولت إلى عشوائيات رفيعة.
- تتفجر الاحتجاجات، كما في فرنسا حين أضرمت ضواحي باريس النار بسبب تهميش سكانها (سابقا ).
لكن عندما يُشرَك المواطنون:
- تتحول المدن إلى مساحات حية، كما في "مشروع حدائق نيويورك" الذي صمم بأفكار السكان.
- تزداد الثقة بين الحكومة والشعب، لأن العمران هو أوضح تعبير عن العدالة الاجتماعية.
الخاتمة: مهندسو المستقبل... حُماة المدن أم هادموها؟
التخطيط العمراني ليس مهنةً فحسب، بل رسالة. رسالة تحمل في طياتها:
- أمانة الالتزام بحقوق الأجيال القادمة.
- شجاعة مواجهة الفساد والاستسهال.
- حكمة تحقيق التوازن بين ما هو سياسي، واقتصادي، وإنساني.
في زمنٍ تتحول فيه المدن إلى ساحات صراع بين القوة والضمير، يبقى السؤال: هل نريد مدنًا تُبنى لتبقى، أم تُبنى لتنهار؟
"العمران الحقيقي لا يُقاس بالأسمنت، بل بمدى سعادة من يعيشون تحت ظله." — تأملات عمرانية